كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ويقول نبيّه صلّى اللّه عليه وآله في آخر حديث أبي ذرّ رواية عن ربّه: «فمن وجد خيرا فليحمد اللّه، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلّا نفسه».
فما من حال يكون فيه أحد من العباد حتى المكروهة إلّا والحقّ يستحقّ منه الحمد على ذلك من حيث ما في ضمنه من المصالح التي يشعر بها كلّ أحد، كمسألة عمر رضي اللّه عنه ومن تنبّه لما أدركه وهذا من شمول النعمة وعموم الرحمة، فافهم.
ثم اعلم، أنّ الحمد يتولّد بين إحسان المحسن وبين من هو محل لإحسانه وهكذا الأمر في سائر الأوصاف الكماليّة المضافة إلى الحقّ إنّما يظهر بين هاتين المرتبتين: الإلهيّة والكونيّة.
ولمّا كان أقوى موجبات الحمد ومنتجاته الإحسان، وكان قول القائل: الحمد للّه، تعريفا بأنّ الحقّ مالك الحمد ومستحقّه والمختصّ به دون غيره، على اختلاف مراتبه التي سبق بيانها وتفصيل أحكامها الكلّيّة، وكان الحمد حقيقة كلّيّة مطلقة، وكذا الاسم اللّه المضاف إليه هذا الحمد المطلق، كما بيّنّا ولم يمكن أن يتعيّن للمطلق حكم من حيث هو مطلق لما أسلفنا، جاء التعريف بعدهما بالاسم الربّ الذي قلنا: إنّه لا يرد إلّا مضافا، وأضافه إلى العالمين تعريف لمسمّى الاسم اللّه في هذه المرتبة ومن هذا الوجه.
وأضاف الربّ إلى العالمين بيانا لعموم سلطنة ربوبيّته وشمول حكم ألوهيّته وإثبات نفوذ أمره في العالم وقدرته من جهة الملك والتربية والتصريف وغير ذلك، ممّا مرّ بيانه.
فلمّا عرف الإنعام وتعيّنت مرتبة المنعم المحمود على الإنعام، احتيج بعد ذلك إلى أن يعرف أنّ وصول الإنعام المثمر للحمد والمبيّن علوّ المحمود على الحامدين وربوبيّته وشمول حكمهما إلى العالمين، الذين هم محالّ هذه الأحكام، ومظاهر هذه النسب والصفات، بأيّ طريق هو؟ وكم هي أقسامه؟ فإنّ ذلك ممّا يستفيد المنعم عليه منه معرفة بالمنعم والإنعام، فيكمل حضوره في الحمد، ويعلو ويتّسع، فلا جرم ذكر سبحانه بعد ذلك، الاسمين: {الرّحمن} {الرّحيم} دون غيرهما، إشارة إلى أنّ الإنعام والإحسان المثمرين للحمد والشكر هما من توابع هذين الاسمين فإنّه لو لا الرحمة وسبقها الغضب لم يكن وجود الكون، ولا ظهر للاسم المنعم والمحسن وأخواتهما عين، ولهذا كان الاسم {الرّحمن} تلوا في الحيطة والحكم والتعلّق والجمعيّة للاسم اللّه.
فعرّف سبحانه بهذين الاسمين هنا أنّ لوصول إنعامه طريقين، وأنّ إنعامه على قسمين، فإحدى الطريقين سلسلة الترتيب ومرتبة الأسباب والوسائط والشروط، والطريق الأخرى مرتبة رفع الوسائط، وما ذكروا الإنعام من الوجه الخاصّ الذي ليس للأسباب والأكوان فيه حكم ولا مشاركة. وقد نبّهت على ذلك غير مرّة.
وأمّا القسمان فالعموم والخصوص، فالعموم للوجود المختصّ بالرحمن فإنّ الرحمة كما بيّنّا نفس الوجود، والغضب يتعيّن بالحكم العدمي اللازم للكثرة الإمكانيّة، والسبق هو الترجيح الإيجادي. والرحمن اسم للحقّ من كونه عين الوجود فإنّ أسماء الحقّ إنّما تنضاف إليه بحسب الاعتبارات المتعيّنة بالآثار والقوابل، ولهذا كثرت مع أحديّة المسمّى.
ولمّا كان التخصيص حكما من أحكام العموم وفرعا عليه، اندرج الاسم {الرّحيم} في: {الرّحمن} ولمّا كانت الألوهيّة- من حيث هي- مرتبة معقولة لا وجود لها، وكانت من حيث الحقّ المنعوت بها والمسمّى لا تغايره لما بيّنّا أنّ الاسم من وجه هو المسمّى، كان الاسم اللّه جامعا للمراتب والموجودات، وكان: {الرّحمن} أخصّ منه لدلالته على الوجود فحسب، واختص الاسم: {الرّحيم} بتفصيل حكم الوجود وإظهار تعيّناته في الموجودات.
فإن فهمت ما بيّنته لك، وتذكّرت ما أسلفته في شرح هذين الاسمين وسرّ الاستواء وسرّ العرش والكرسي، تحقّقت بمعرفة هذه الأسماء، واستشرفت على كثير من أسرارها.
ثم نقول: وكلّ شيء فلابد وأن يكون استناده إلى الحقّ من حيث المرتبة أو الوجود جمعا وفرادى، فلهذا عبّر سبحانه بهذين الاسمين في مرتبة التقدم والرئاسة على باقي الأسماء، فقال عزّ وجلّ: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى.
ثمّ اعلم، أنّ الرحمة حقيقة واحدة كلّيّة، والتعدّد المنسوب إليها، المشار إليه في الحديث: «بأنّ للّه مائة رحمة». راجع إلى مراتبها، واختصاصها بالمائة إشارة إلى الأسماء الكلّيّة المحرّض على إحصائها، وهكذا الأمر في الدرجات الجنانيّة، فما من اسم من أسماء الإحصاء إلّا وللرحمة فيه حكم فإنّ الأسماء- كما بيّنّا- من وجه عين المسمّى، والمسمّى هو الرحمن الذي له الوجود المطلق، وقد عرفت ممّا أسلفنا أنّ الأسماء لا يظهر حكمها إلّا بمظاهرها، ومظاهرها إذا لم تعتبر من حيث وجودها كانت نسبا عدميّة أيضا، ولا اعتبار للنسب إلّا بالوجود، فحكم الأسماء والأعيان التي هي المظاهر تابع للوجود، وهذا من سرّ عموم حكم الاسم {الرّحمن} الذي نبّهنا عليه.
فالرحمة الواحدة المرسلة إلى الدنيا هي النسبة الجامعة من نسب الرحمة ظهرت في الموطن الجامع لما بيّنّا من أنّ تجلّي الحقّ وحكم أسمائه يتعيّن في كلّ حال ووقت وموطن بحسب القوابل والأحكام المختصّة بها.
والتسعة والتسعون رحمة هي عبارة عن مراتب الرحمة وأحكامها في أسماء الإحصاء فالنسبة الجامعة تظهر حكم الرحمة من الوجه الكلّي، وبالأسماء المذكورة تظهر أحكامها التفصيليّة، وبأحديّة جمعها يظهر في آخر الأمر سرّ سبقها للغضب.
وقد بيّنّا غير مرّة أنّ الآخر نظير الأوّل، بل هو عينه خفي بين الطرفين، لتداخل أحكام النسب المتعيّنة بين البداية والنهاية، ثم تكمّل حكم الأوليّة في آخر الأمر، فتظهر له الغلبة في النهاية، فإنّ الحكم في كلّ أمر هو للأوّليّات، ولكن بسرّ الجمع كما أشرت إلى ذلك مرارا، فإذا كان يوم القيامة، وانضافت هذه النسبة الجامعة إلى التسعة والتسعين المتفرّعة في الأسماء، وانتهى حكم الاسم المنتقم والقهّار وأخواتهما، ظهر سرّ سبق الرحمة الغضب في أوّل الإنشاء، فافهم.
ولمّا كانت الموجودات مظاهر الأسماء والحقائق، وكان الإنسان أجمعها وأكملها، اقتضى الأمر الإلهي أن يكون في عباد اللّه من هو مظهر هذا الحكم الكلّي والتفصيلي المختصّين بالرحمة، فكان ذلك العبد صاحب السجلّات، الذي وردت قصّته في الحديث، وكانت بطاقته الحاملة سرّ أحديّة الجمع هي التي فيها لا إله إلّا اللّه، ولها الأوّلية والجمعيّة والأحديّة، فغلبت لذلك أحكام الأسماء كلّها.
وفي التحقيق الأتمّ أنّ الرحمة لمّا كانت سارية الحكم في مراتب الأسماء، بنسبة التفصيل والكثرة في مرتبة جمعيّتها وأوّليّتها بأحديّة الجمع، كانت الغلبة والمغلوبيّة حكمين راجعين إليها، فهي- من حيث أحديّتها وجمعيّتها للنسب التفصليّة- غالبة، وهي بعينها- من حيث تفاريعها ونسبها الجزئيّة المتعيّنة في مرتبة كلّ اسم بحسبه- مغلوبة، فهي الغالبة المغلوبة، والحاكمة المحكومة، وهكذا سرّ الحكم في المظهر المشار إليه فإنّ التسعة والتسعين سجلّا هي نسخ حاملة ما قبح من أفعال ذلك العبد، والبطاقة المتضمّنة لا إله إلّا اللّه هي نسخة ما حسن من فعله، فغلب الفعل الحسن المضاف إليه تلك الأفعال السيّئة، فهو من حيث فعله الحسن غالب، ومن حيث فعله القبيح مغلوب.
ومن ارتقى فوق هذا المقام، رأى أنّ الفعل بالفاعل غلب نفسه، فإن كمل ذوق المرتقي في هذا المقام، رأى أنّ جميع الصفات والأفعال المنسوبة إلى الكون صادرة من الحقّ وعائدة إليه ولكن بالممكنات، وهي شروط فحسب كالموادّ الغذائيّة الحاملة للمعاني التي بها يحصل التغذّي، فيصل المطلوب بها إلى الطالب ويتّحد به مع عدم المغايرة، وتنفصل هي من البين، فيرتفع البين، فافهم. وقد بقيت تتمّة تختصّ بالاسم {الرّحمن الرّحيم} نذكرها ونختم الكلام بها عليهما إن شاء اللّه، فنقول:
حضرات الرحمة:
اعلم، أنّ الحضرات الكلّيّة المختصّة بالرحمة ثلاث: حضرة الظهور، وحضرة البطون، وحضرة الجمع. وقد سبق التنبيه عليها في شرح مراتب التمييز، وفي مواضع أخر أيضا.
وكلّ موجود فله هذه المراتب ولا يخلو عن حكمها، وعلى هذه المراتب الثلاث تنقسم أحكام الرحمة في السعداء والأشقياء، والمتنعّمين بنفوسهم دون أبدانهم، كالأرواح المجرّدة وبالعكس، والجامعين بين الأمرين والسعداء في الجنّة أيضا من حيث نفوسهم بعلومهم دون صورهم لكونهم لم يقدّموا في جنّة الأعمال ما يستوجبون به النعيم الصوري، وإن كان، فنزر يسير بالنسبة إلى سواهم، وعكس ذلك كالزهّاد والعبّاد الذين لا علم لهم باللّه، فإنّ أرواحهم قليلة الحظّ من النعيم الروحاني، لعدم المناسبة بينهم وبين الحضرات الإلهيّة العلميّة، ولهذا- أي لعدم المناسبة- لم يتعلّق هممهم زمان العمل بما وراء العمل وثمرته، بل ظنّوه الغاية، فوقفوا عنده واقتصروا عليه، رغبة فيما وعدوا به أو رهبة ممّا حذّروا منه.
وأمّا الجامعون بين النعيمين تماما فهم الفائزون بالحظّ الكامل في العلم والعمل كالرسل- صلوات اللّه عليهم- ومن كملت وراثته منهم أعني الكمّل من الأولياء.
ولمّا كانت الرحمة عين الوجود، والوجود هو النور، والحكم العدميّ له الظلمة، كما نبّهتك عليه، كان كلّ من ظهر فيه حكم النور أتمّ وأشمل، فهو أحقّ العباد نسبة إلى الحقّ وأكمل، ولهذا سأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ربّه أن ينوّر ظاهره، وعدّد الأعضاء الظاهرة كالشعر والجلد واللحم وغير ذلك، ثمّ عدّد القوى الباطنة كالقلب والسمع والبصر، فلمّا فرغ من التفصيل، نطق بلسان أحديّة جمعه، فقال: «اجعل لي نورا واجعلني نورا».
وهذا هو عموم حكم الرحمة ظاهرا وباطنا، وإجمالا وتفصيلا من جميع الوجوه.
وصاحب هذا المقام لا يبقى فيه من الحكم الإمكاني الذي له وجه إلى العدم إلّا نسبة واحدة من وجه واحد، بها تثبت عبوديّته، وبها يمتاز عمّن هو على صورته، وتذكّر تعريف الحقّ سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه وآله بأنّه أرسل رحمة للعالمين، وأنّه بالمؤمنين رؤوف رحيم، وتضرّع إلى اللّه في أن ترث من هذا السيد الأكمل هذا المقام الأشرف الأفضل، وصاحبه هو الإنسان الكامل، والحال المذكور هو من أكبر أجزاء حدّ الكمال، ومن أتمّ الأوصاف المختصّة به، فاعلم ذلك. ثم نرجع إلى ما كنّا بسبيله، فنقول:
وهكذا الأمر في جهنّم فإنّ المؤمن لا تؤثّر النار في باطنه، والمنافق لا يعذّب في الدرك الأعلى المتعلّق بالظاهر، بل في الدرك الأسفل المختصّ بالباطن، والمشرك يعذّب في الدرك الأعلى والأسفل، في مقابلة السعيد التامّ السعادة.
وهنا أمور لا يمكن ذكرها يعرفها اللبيب ممّا سبقت الإشارة إليه من قبل. ولهذه الأقسام تفاصيل وأحكام يفضي ذكرها إلى بسط كثير، فأضربت عن ذكرها لذلك، واقتصرت على هذا القدر، وسأذكر عند الكلام على قوله: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} ما يبقى من جمل أسرار هذا المقام حسب ما تستدعيه الآية ويقدّره الحقّ- إن شاء اللّه تعالى- ثم لتعلم أنّ التخصيص الذي هو حكم الاسم {الرّحيم} على نوعين تابعين للقبضتين كما مرّ بيانه:
أحدهما: تخصيص أسباب النعيم لأهل السعادة برفع الشوائب، كما أخبر به الحقّ بقوله: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ} فإنّ الدنيا دار جمع ومزج، فهي للمؤمنين في الدنيا ممزوجة بالأنكاد والأحكام الموطنيّة، وهي لهم في الآخرة خالصة.
فالاسم {الرّحيم} هو المصفّي أسباب النعيم وسوابغ الإحسان عن شوائب الأكدار والأنكاد.
والنوع الآخر من التخصيص هو مطلق تمييز السعداء من الأشقياء والتخليص من حكم التشابه الحاصل في الدنيا، بسبب عموم حكم الاسم {الرّحمن} وما للأشقياء في الدنيا من النعيم والراحة ونحوهما من أحكام الرحمة، وبضدّ ذلك لسعداء المؤمنين من الآلام والأنكاد.
وأيضا فالرحمن عامّ المعنى، خاصّ اللفظ، والرحيم عام اللفظ، خاصّ المعنى، على رأي جماعة من أكابر علماء الرسوم، وهذا القول من وجه موافق لبعض ما أشرنا إليه بلسان التحقيق وإن لم يكن من مشرب أهل الظاهر، فافهم.
وانظر إلى كمال معرفة الرسل- صلوات اللّه عليهم- بالأمور وقول الخليل- على نبيّنا وعليه أفضل الصلاة- الذي حكاه الحقّ لنا عنه في كتابه العزيز لأبيه: يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذاب مِنَ الرَّحْمنِ فراعى- صلوات اللّه عليه- من له الحكم من الأسماء على أبيه يومئذ وهو الاسم {الرّحمن} فإنّه كان في سلامة وراحة، فنبّهه على أنّ الاسم {الرّحمن} اسم جامع وتحت حيطته أسماء لها أحكام غير الرحمة تظهر بحكم التخليص الرحمي في دار الفصل فتمتاز حصة الرحمة الخالصة عن كلّ ما ينافيها وتظهر خاصّيّة كلّ اسم بحسبه، فكأنّه قال له: لا تغترّ بما أنت عليه من الأمن والدعة فإنّ الاسم المنتقم إذا انفصل عنه حكم الاسم {الرّحمن} بالتمييز والتخليص المذكور، ظهرت لك أمور شديدة تخالف ما أنت عليه الآن، فاستدرك ما دام الأمر والوقت موافقين، فحجب اللّه إدراكه عن معرفة ما أشار الخليل إليه ليقضي اللّه أمرا كان مفعولا.
وهنا سرّ عزيز أنبّه عليه ونختم به الكلام على هذه الآية، وهو أنّ التخصيص المضاف إلى الاسم {الرحيم} هو حكم الإرادة فإنّ الإرادة- كما بيّنّا- من الأسماء الأصليّة الأول، والرحيم وإن عدّ من الكلّيّات باعتبار ما تحت حيطته، فهو من الأسماء التالية للأمّهات الأول المذكورة.
ثم التخصيص المنسوب إلى الإرادة هو في التحقيق الأتمّ من حكم العلم إذ لو توقّف كلّ تخصيص على الإرادة، لكان نفس تخصيصها بكونها إرادة إمّا أن يتوقّف عليها، فيفضي إلى توقّف الشيء على نفسه وكونه سببا لنفسه، وهذا لا يصحّ أو يتوقّف على إرادة أخرى، متقدّمة على هذه الإرادة، والكلام في تلك كالكلام في هذه، فيفضي الأمر إلى الدور أو التسلسل، وكلاهما محال في هذه الصورة، ولكان تخصيص العلم والحياة أيضا متوقّفا على الإرادة، مع ثبوت تبعيّتها لهما وتأخّر مرتبتهما عن مرتبتهما، ولا يصحّ ذلك، فالإرادة، في التحقيق تعلّق خاصّ للذات، يتعيّن بالعلم وتظهر التخصيصات الثابتة في العلم، لا أنّها تخصيص ما لم يثبت تخصيصه في العلم، والعلم من كونه علما تعلق خاصّ من الذات، يتعيّن حكمه في المعلوم والمراد بحسبهما، فمعقوليّة القبول من الممكن لنسبة الترجيح الإيجادي ولوازمه تعيّن الحكم العلمي المعيّن لنسبة الإرادة والاختيار وأحكامهما، فافهم.
ولهذا المقام أسرار يحظى بها الأمناء، الذين رقوا بقدمي الصدق والعناية إلى ذروته، فإن كنت من أهل الهمم العالية والاستعدادات التامّة، فتوجّه إلى الحقّ في أن يطلعك على مخزن هذه الأسرار، وينبوع هذه الأنوار، فإن منحت الإجابة فارق وانظر وتنزّه ولا تنطق اللَّهُ لَطِيف بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ. اهـ.